إن مفهوم الاستمطار كوسيلة فعالة لتعزيز هطول الأمطار في المناطق القاحلة، أو لتحسين الظروف الجوية في مواجهة تداعيات التغير المناخي، ليس بالأمر الجديد، بل يعود تاريخه إلى أواخر القرن التاسع عشر، حيث أثارت هذه التقنية اهتمام العلماء والمهندسين الذي سعوا لفهم آلية عمل هذه التقنية وضمان سلامتها وفعاليتها. ومنذ ذلك الحين برز سؤال جوهري إلى السطح: ما هي المواد التي يجب علينا استخدامها في عمليات التلقيح لزيادة هطول الأمطار بشكل آمن؟
ويعد تلقيح السحب شكلاً من أشكال تعديل الطقس الذي يحاكي في طريقة تنفيذه ما يحدث في السحب في حالة المطر الطبيعي، ولكنه يعزز هذه العملية بإضافة جزيئات تساعد على تحفيز وتسريع عملية التكثيف والحمل الحراري. وتتزايد أهمية هذه التقنية كأداة فعالة لتعزيز هطول الأمطار ضمن الاستراتيجية الأوسع لتحقيق الأمن المائي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى أنها تعمل كوسيلة فاعلة للحد من آثار التغير المناخي والحماية من التلوث.
ودرس الباحثون منذ ستينيات القرن الماضي تأثير أنواع مختلفة من مواد التلقيح على السحب، إلا أن هذه الدراسات أخدت منحاً متسارعاً بعد تطبيق مواد جديدة لتحسين فعالية الاستمطار، كمواد التلقيح الاسترطابية التي يعود الفضل في ابتكارها إلى تكنولوجيا النانو.
وتساعد مواد التلقيح الاسترطابية، كمادتي كلوريد البوتاسيوم وكلوريد الصوديوم (ملح الطعام)، على تعزيز هطول الأمطار عن طريق سحب الرطوبة في الغلاف الجوي، وتتألف هذه المواد من مركبات طبيعية وغير سامة، والتي لا تتسبب في حدوث أي آثار سلبية على البيئة أو الصحة العامة، مما يجعلها أداة مهمة في جهود تعديل الطقس.
لقد تمت دراسة التأثير البيئي أو السمي المحتمل لمواد تلقيح السحب (سواء الاسترطابية منها أو المواد التي تساعد على تكون البلورات الجليدية) على مدى عقود، من بينها دراسة أجراها خبراء في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية والتي استندت إلى مراجعة أكثر من 31 ورقة بحثية، واستنجوا أنه لا يوحد أي دليل على التأثير السلبي لهذه المواد على البيئة، كما توصلت دراسات أخرى قامت بها عدد من المنظمات الدولية إلى استنتاجات مماثلة.
ومن الدراسات التي سلطت الضوء على عدم تأثير مواد التلقيح على البيئة بيانات تعديل الطقس الصادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في الأعوام (1991, 2006, 2015)، وتقرير رابطة تعديل الطقس عام 2009، وتقرير مراجعة أجراه البروفيسور مايكل جارستانج وآخرون من الأكاديميات الوطنية في الولايات المتحدة في عامي 2003, 2005.
وفي السنوات الأخيرة، استخدم برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار في دولة الإمارات في عملياته في مجال الاستمطار مادة كلوريد الصوديوم/ وثاني أكسيد التيتانيومNaCl /TiO2 والتي تعرف باختصار بـCSNT ، وهي من المواد الاسترطابية التي تحتوي على مكونين رئيسيين، وتعد دولة الإمارات حاليًا الدولة الوحيدة في العالم التي تستخدم مادة CNST في عمليات تلقيح السحب بعد أن أنجز البرنامج جميع الدراسات المتعلقة بتأثير هذه المواد على البيئة بنجاح في عام 2017.
وتُصنع مادةCNST المستخدمة في عمليات الاستمطار من مكونات طبيعية وآمنة لا تضر بالبيئة أو الصحة العامة، حيث تتكون هذه المادة المبتكرة بشكل أساسي من ملح الطعام، أو كلوريد الصوديوم (بنسبة 90%)، وكمية ضئيلة من ثاني أكسيد التيتانيوم (بنسبة لا تتجاوز 10%(.
ويعمل ثاني أكسيد التيتانيوم كطبقة خارجية رقيقة أو طلاء لمادة CNST، كما يمكن أن تصبح هذه المادة أكثر تفاعلاً في السحب الممطرة من خلال تغيير سطحها الخارجي، مما يجعلها أكثر فعالية في نطاقات الرطوبة النسبية المنخفضة وعلى نطاقات أوسع، علما بأن جميع المكونات التي تحتوي عليها مادة CNST غير مصنفة على أنها مواد خطرة على البيئة بموجب لوائح السلامة في الولايات المتحدة أو غيرها من الدول، حيث لا تضع إدارة السلامة والصحة المهنية الأمريكية حدودًا للتعرض لملح الطعام، كما أن كمية ثاني أكسيد التيتانيوم المستخدمة في مادة CNST أقل بكثير من اشتراطات السلامة التي حددتها إدارة السلامة والصحة المهنية الأمريكية.
وقادت البروفيسورة ليندا زو، أستاذة البنية التحتية المدنية والهندسة البيئية في جامعة خليفة والعالمة الحاصلة على منحة برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار في دورته الأولى عام 2015، مشروعا بحثياً رائدًا لاستخدام تكنولوجيا النانو في تطوير مواد تلقيح السحب، حيث افترضت أن الكثير من مواد تلقيح السحب الحالية والمستخدمة منذ عقود عديدة تعمل بتقنيات قديمة وأقل فعالية.
وبفضل التقدم الكبير في تكنولوجيا وعلوم النانو، أصبح بإمكان المجتمع العلمي الآن تصميم وهندسة مواد تلقيح استرطابية تتمتع بخصائص مثالية، مما يزيد من قدرة تكثيف بخار الماء على تحفيز هطول الأمطار بفعالية أكبر.
إن استخدام كمية قليلة من مادة CNST أثناء عمليات تعديل الطقس لا يؤثر على السحب المطرية بسبب الكميات الكبيرة من مياه الأمطار التي تنتج عن هذه العملية، فالعواصف النموذجية في شبه الجزيرة العربية، على سبيل المثال، تنتج ما متوسطه مليون متر مكعب من مياه الأمطار.
وتتراوح كمية مادة CNST التي تستخدم في عمليات الاستمطار غالبًا ما بين 200 إلى 1000 جرام، وتنتج عنها تركيزات أقل من حد التعرض الآمن بمئات المرات، وبفعل قلة تركيزها تصبح غير ضارة على الإطلاق، بما يضمن سلامة عمليات الاستمطار التي تستخدم هذه المادة ويجعلها صديقة للبيئة.
وأظهرت نتائج أبحاث البروفيسورة ليندا زو أنه في الظروف الجوية التي تصل نسبة الرطوبة فيها إلى 100 بالمائة، ساهمت مادة CNST في زيادة تركيز قطرات الماء الكبيرة بنسبة 300 بالمائة، وهو الحجم المثالي لهطول الأمطار مقارنة بمواد التلقيح التقليدية. وقد حصل هذا المشروع المبتكر على براءة اختراع في مختلف أنحاء العالم بما في ذلك مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية بالولايات المتحدة باعتباره تطبيقًا مبتكراً لاستخدام تكنولوجيا النانو في تصنيع المواد الاسترطابية لتلقيح السحب.
وبالاستفادة من خصائص هذه المركبات في سحب الرطوبة، يمكن أن يساعد التلقيح الاسترطابي في زيادة فعالية هطول الأمطار في المناطق التي تعاني من الجفاف أو انخفاض هطول الأمطار، مما يوفر موردًا حيويًا للزراعة ورفد إمدادات المياه وتعزيز النظام البيئي دون الإضرار بالبيئة أو الصحة العامة.